نزار
في خضمّ التحولات التي أفرزتها ثورة الهواتف الذكية، غدت الحياة اليومية خاضعة لتغييرات عميقة على مستوى القيم والسلوكيات.
فقد ولّى زمن الهواتف التقليدية التي حملت مكالمات الحبّ والسلام، ورسائل النصوص القصيرة التي كان المحبّ يعدّ فيها الحروف بعناية، وحلّ محلّها عصر السوشيال ميديا، حيث باتت الخصوصية والحياء من ضحايا الحداثة المتسارعة.
اليوم، ومع انتشار تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وإنستغرام، أصبحنا نعيش في عالم يشهد صراعًا بين مظاهر البذخ المفرط وحالة التباهي بالوفرة، وبين واقع من يستتر خلف الشاشات خشية أن يُكشف فقره الذي كان يومًا مدعاة للفخر والصمود. ففي الماضي، كما قال المصريون، “رائحة الفقر التي ما كانت يومًا إلا رائحة الرجال والغلابة”، كانت هذه الرائحة رمزًا للصبر والنضال، ودليلًا على العيش بكرامة.
أما اليوم، فقد بات البعض يخشى أن تُفصح هذه الرائحة عن هويته الحقيقية في عالم تُقاس فيه القيمة بالمظاهر والقدرة على التباهي.
الحياء في مواجهة العولمة الرقمية
كانت المنازل في الماضي ملاذًا للستر والسكينة، تُحيطها جدران الغموض وتفوح منها رائحة الحياء. أما اليوم، فقد باتت الخصوصية ترفًا نادرًا في زمن الشوها ميديا، حيث أصبح المرء يستعرض أدق تفاصيل حياته اليومية أمام الغرباء مقابل “الإعجابات” و”الهدايا الافتراضية”.
ومن المشاهد المثيرة للتساؤل، تلك الظاهرة التي باتت تُعرف بـ”التسول الافتراضي”. فقد استبدل البعض التسول التقليدي الذي كان يتمّ في الأزقة وتحت لهيب شمس تموز أو زمهرير تشرين، بممارسات جديدة عبر شاشات الهواتف الذكية.
يُقدّم هؤلاء أنفسهم كعارضي محتوى، يتوسّلون الهدايا الرقمية، ويحوّلون أفعالهم إلى عروض مفتوحة تحت مسمى “البث المباشر”.
الزوجة الافتراضية: مشاركة خاصة في الفضاء العام
ومن المفارقات التي تثير السخرية والحزن معًا، تحول العلاقات الأسرية إلى مشهد مفتوح. فقد أصبحت الزوجة – وهي رمز الحياء والخصوصية في ثقافتنا – “زوجة للجميع” عبر البث المباشر.
نتابعها كيف تستيقظ، وكيف تُعدّل مظهرها، وحتى تفاصيل دولاب ملابسها باتت معروضة على الملأ. تتحول هذه المرأة، بوعي أو دون وعي، إلى “عارضة محتوى” تُسخّر جسدها وخصوصياتها كوسيلة لجذب المتابعين، وكل ذلك تحت وطأة موجة التسول الرقمي التي تفرض عليها أن تظهر بألف خير، ولو كان ذلك على حساب معاناتها الشخصية.
اهتمامات المشرع المغربي في مواجهة الظاهرة
أمام التحولات الاجتماعية والقيمية التي أفرزتها العولمة الرقمية، بدأ المشرع المغربي يهتم بوضع نصوص قانونية تهدف إلى الحد من ظاهرة “التسول الافتراضي” وما يرتبط بها من ممارسات تؤثر سلبًا على المجتمع وقيمه.
فقد تنبه المشرع إلى المخاطر التي يطرحها استغلال المنصات الرقمية للتسول بطرق غير مباشرة، سواء من خلال البث المباشر أو المحتوى المضلل الذي يستجدي تعاطف المتابعين.
وفي هذا السياق، تعمل التشريعات المغربية على سدّ الثغرات القانونية لضبط استخدام منصات التواصل الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالممارسات التي تتعارض مع الأخلاق العامة أو تستغل ضعف الأفراد لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
كما يُنتظر أن تُدرج قوانين واضحة تجرّم الاستغلال المفرط للخصوصيات الشخصية كوسيلة لجذب التبرعات والهدايا الرقمية.
ويهدف هذا التوجه إلى حماية المجتمع من التبعات السلبية لهذه الظاهرة، والحفاظ على القيم الأخلاقية التي تشكل أساسًا متينًا للهوية المغربية.
ومع ذلك، يبقى الرهان على تفعيل هذه القوانين وتوعية الأفراد بمخاطر التسول الرقمي ومسؤوليتهم تجاه استخدام التكنولوجيا بوعي واحترام.
انعكاسات الظاهرة: المجتمع بين التغييب والتسليع
التسول الافتراضي ليس مجرد ظاهرة فردية، بل يعكس أزمة قيمية عميقة. إنه تسليع للإنسان وتحويله إلى وسيلة جذب لتحقيق الأرباح، سواء عبر الهدايا الرقمية أو الإعلانات المبطنة.
والأسوأ من ذلك، أن هذا النمط من العيش يكرّس تآكل القيم المجتمعية ويحوّل الحياة إلى مشهد استعراضي يُقاس بالمتابعات والمشاهدات.
هل من سبيل للخروج من الأزمة؟
ربما حان الوقت لإعادة النظر في علاقتنا بالتكنولوجيا وفي الطريقة التي نستخدم بها أدوات التواصل الاجتماعي. ما نحتاجه اليوم هو استعادة التوازن بين الحداثة والقيم الأصيلة، والوعي بمخاطر الانسياق وراء العولمة الرقمية على حساب هويتنا الثقافية والإنسانية.
إن تساؤلاتنا حول الحياء والتسول الافتراضي ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل دعوة صريحة إلى تأمل واقعنا الحالي والعمل على صياغة رؤية جديدة تُعيد الاعتبار للخصوصية وللحياء بوصفهما قيمتين إنسانيتين لا غنى عنهما.
وكما قال المصريون: “رائحة الفقر التي ما كانت يومًا إلا رائحة الرجال والغلابة”، ليتنا نستعيد تلك القيم التي جعلت من البساطة عنوانًا للشرف، ومن الصبر والكفاح أساسًا للحياة الكريمة.