الجبل يلد القادة .. والسهل يستهلكهم

tahqiqe24

لطالما كانت الجغرافيا شاهدة على الصراعات البشرية، حيث يعتقد البعض أن السهل مركز الحداثة والتخطيط، بينما يُنظر إلى الجبل كفضاء هامشي، بعيد عن مراكز القرار. غير أن الحقيقة التي يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون هي أن الجبل لم يكن يومًا مجرد تضاريس شاهقة، بل مصنعًا للرجال، ومختبرًا للعقول، ومصدرًا لقادة لم تلدهم رفاهية السهل، بل صلابة الجبال التي لا تنحني. الجبل هو الأب الحقيقي الذي لا يموت، ولا يزال ينجب العقول التي تدير شؤون السهل نفسه، حتى عندما يتوهم الأخير أنه المتحكم في المشهد.
منذ الأزل، شكّلت الطبيعة الإنسان وصقلت شخصيته، حيث فرضت الحياة في الجبل على سكانه الصبر والجلد والقدرة على التأقلم مع أصعب الظروف. هناك، لا تأتي الخيرات بسهولة، ولا تبتسم الحياة إلا لمن يصر على انتزاع حقه منها. أما في السهل، فكل شيء متاح، وكل مورد قريب، مما جعل أبناءه أقل إدراكا لقيمة الكفاح، وأكثر اعتمادًا على ما يُمنح لهم، حتى وإن ادّعوا العكس. الفارق بين الجبل والسهل ليس مجرد تفاوت في الارتفاع، بل هو فرق في البنية الذهنية، حيث يتعلم ابن الجبل أن الصمود هو القاعدة، بينما يميل ابن السهل إلى التذمر إذا ما تغيرت الظروف قليلًا عن المعتاد.
في السياسة، تبرز هذه الفروقات بوضوح أكبر. يعتقد أبناء السهل أنهم المتحكمون، لأنهم يعيشون في المراكز الإدارية والاقتصادية، لكن من يدقق في المشهد يجد أن عقول الجبل هي التي ترسم الاستراتيجيات، وتصنع التوازنات، وتوجه دفة الحكم حتى وإن لم تكن في الواجهة دائمًا. الجبل، رغم التهميش الذي طال مناطقه، لم يكن مهمشًا في القرار، بل كان الفاعل الخفي الذي يوجه المسار، وإن كان السهل هو من ينفذ. هذا الفارق ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخ طويل، حيث كان أبناء الجبال دومًا هم من يقودون الحركات التحررية، وهم من يضعون اللبنات الأولى للدول القوية، بينما يقتصر دور السهل على استلام المنتوج النهائي والتعامل معه كأمر واقع.
الاقتصاد ليس بعيدًا عن هذه القاعدة، فرغم أن الأسواق والمدن الكبرى توجد في السهول، إلا أن ثرواتها تأتي من الجبل. من المعادن التي تُستخرج من أعماقه، إلى المياه التي تنحدر من قممه، وحتى العقول التي تدير اقتصاد السهل، كلها خرجت من هناك، حيث الصلابة تصنع المعجزات. وفي الأزمات، حين تتوقف العجلة، يكون أبناء الجبل هم الأقدر على التأقلم، لأنهم تربوا على تدبير الندرة، بينما يجد السهل نفسه مكشوفًا أمام الواقع، غير قادر على الصمود دون إمدادات خارجية.
رغم ذلك، ظل الجبل يُعامل كمجال هامشي في سياسات التنمية، حيث تتركز الاستثمارات في السهل، بينما تظل القرى الجبلية خارج حسابات المخططات الكبرى. لكن المفارقة أن هذا الإقصاء لم يكن سوى دافع إضافي لتفوق أبناء الجبل، حيث دفعهم إلى ابتكار حلولهم الخاصة، والتحول إلى صناع قرار، حتى أصبحوا اليوم هم من يديرون المشهد بأكمله، بينما لا يزال السهل يتوهم أنه صاحب النفوذ الحقيقي.
في الثقافة والهوية، ظل الجبل أكثر وفاءً لأصوله، في وقت انجر فيه السهل وراء أنماط مستوردة، حتى فقد الكثير من ملامحه الأصيلة. حين تراجع الالتزام في المدن الكبرى، وحين غابت القيم أمام الإيقاع المتسارع للحياة، عاد الجميع يبحثون عن الجذور، عن المعنى، عن الهوية، ولم يجدوا سوى الجبل كملاذ يحفظ التاريخ، ويصون العادات، ويثبت أن الأصالة لا تُشترى ولا تُصنع، بل تُولد مع الإنسان حيث تكون التربة أصلب، والسماء أقرب.
لذلك، لا عجب أن يهاب السهل الجبل، فهو يُدرك، ولو ضمنيًا، أن وجوده مرتبط بما يمنحه له هذا الأخير، وأن كل ما يفتخر به لم يأتِ من عنده، بل جاءه من المرتفعات التي يراها بعيدة، لكنها في الحقيقة تتحكم في تفاصيل حياته أكثر مما يتصور. يحاول السهل أن يصور الجبل كمجال تابع، لكنه لا يستطيع إنكار أن القوة الحقيقية ليست في الأرض المنبسطة، بل في من يُديرها، ومن يُحدد لها طريقها.
قد يحاول البعض طمس هذه الحقائق، وقد يستمر آخرون في التسويق لفكرة تفوق السهل، لكن الزمن يثبت، مرة بعد أخرى، أن الجبل هو من يصمد في النهاية، وأنه حين تنحني السهول أمام تقلبات الزمن، تظل الجبال شامخة، لا تتأثر، ولا تلتفت إلى من اعتقد يومًا أنه قادر على احتقارها.

لا يمكن نسخ هذا المحتوى.