بقلم مخضار محمد
المهاجرون في فرنسا: من أبطال الحرب إلى كبش الفداء السياسي
لطالما كان المهاجرون جزءًا أساسيًا من بناء فرنسا الحديثة. من الحروب الكبرى إلى نهضة الاقتصاد، قدم المهاجرون تضحيات لا تُحصى، وكانوا محركًا رئيسيًا في تطور هذا البلد. ومع ذلك، يتناقض هذا الدور الجوهري مع نظرة السياسة الفرنسية الحالية، التي ترى فيهم اليوم عبئًا على المجتمع وسببًا رئيسيًا في مشكلات البلاد. كيف تحوّل هذا المهاجر، الذي كان يُحتفى به في الماضي، إلى هدف للهجوم السياسي والانتخابي؟
مهاجرون في ساحة المعركة: من أبطال إلى متهمين
منذ الحرب العالمية الأولى، كان للمهاجرين دور أساسي في الدفاع عن فرنسا. الجنود من المستعمرات السابقة مثل الجزائر وتونس والمغرب جُندوا للقتال في صفوف الجيش الفرنسي، وقدموا أرواحهم من أجل الوطن. مع ذلك، كانت هذه التضحيات تُنسى سريعًا عند انتهاء الحروب، حيث عاش هؤلاء الجنود في ظروف اقتصادية قاسية دون أن تُعترف بحقوقهم بالشكل اللائق.
اليوم، ومع مرور الوقت، أصبحت الذاكرة التاريخية للمهاجرين تتلاشى، ليُصار إلى تصويرهم في السياسة الفرنسية الحالية كعائق رئيسي في نمو الاقتصاد الفرنسي. من خلال الحملات الانتخابية الأخيرة، لم يعد الحديث عن المهاجرين في فرنسا يتناول دورهم البناء، بل يتحول إلى أداة للمزايدة السياسية، حيث يُتهمون بأنهم يُثقلون الاقتصاد، ويشكلون عبئًا اجتماعيًا وثقافيًا.
ازدواجية المواقف: التكريم والإقصاء
مفارقة غريبة هي تلك التي يعيشها المهاجرون في فرنسا، إذ في المناسبات الرسمية مثل عيد الاستقلال الفرنسي، يُكرّم الجنود المهاجرون الذين قدموا حياتهم في الحروب الكبرى. يتم الاحتفاء بهم كشهداء، ويُعتبرون جزءًا من الهوية الوطنية. لكن ما أن تنتهي تلك الاحتفالات، حتى يبدأ الساسة في تصويرهم كـ “مشكلة” على الساحة السياسية.
في تصريحات مثيرة للجدل، اعتبر فرانسوا بايرو، رئيس وزراء فرنسا، في حديثه مؤخرًا أن “فرنسا أصبحت في مواجهة تحديات بسبب تزايد أعداد المهاجرين”. ورغم الإحصائيات التي تظهر أن المهاجرين يشكلون 10% فقط من سكان البلاد، فإن تصريحات بايرو تُظهر الهجرة كمشكلة كبيرة تؤثر على استقرار البلاد. هذا الخطاب يعكس قلقًا سياسيًا يدفع المهاجرين إلى الشعور بالعزلة والتهميش.
التصريحات المتناقضة: المهاجرون في مرمى الأحزاب السياسية
لم يقتصر الهجوم على المهاجرين على الحكومة فقط، بل امتد ليشمل العديد من الأحزاب السياسية الفرنسية. مارين لوبان، زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف، رددت مرارًا أن “المهاجرين هم سبب انتشار الجريمة وتهديد الهوية الوطنية”، مشيرة إلى أن الهجرة تهدد استقرار المجتمع الفرنسي. هذا التصريح يتزامن مع التصريحات الأخرى لزعماء الأحزاب اليمينية مثل لوران فوكيه، رئيس حزب “الجمهوريين”، الذي شدد على ضرورة الحد من الهجرة باعتبارها عاملًا من عوامل تدهور الاقتصاد الفرنسي.
وفي المقابل، هناك أصوات داخل الأحزاب اليسارية تدافع عن حقوق المهاجرين. جان-لوك ميلانشون، زعيم حزب “فرنسا المتمردة”، اعتبر أن “المهاجرين هم جزء من تاريخ فرنسا، وأنهم لا يشكلون عبئًا، بل هم القوة الدافعة للابتكار والنمو”. ميلانشون يعارض التهميش الذي يواجهه المهاجرون، داعيًا إلى تعزيز سياسات الاندماج الاجتماعي.
الحلول الممكنة: ضرورة التغيير في الخطاب والسياسات
بالنظر إلى هذه التناقضات، يبقى أن تتخذ الحكومة الفرنسية خطوات حقيقية لمعالجة مشكلة التهميش التي يواجهها المهاجرون. على الحكومة أن تتبنى سياسات أكثر توازناً لدمج المهاجرين في المجتمع، مع التركيز على التعليم، والتوظيف، والفرص الاقتصادية. أيضًا، يجب على وسائل الإعلام توجيه خطاباتها بشكل أكثر موضوعية، بعيدًا عن التركيز على السلبيات التي تمثل نسبة ضئيلة من المجتمع المهاجر.
يجب أن ندرك أن المهاجرين ليسوا مجرد “مشكلة” بل هم جزء من الحل. فهم قدّموا لفرنسا الكثير على مدار عقود من العمل في الصناعات والتجارة والتعليم. إن إعادة الاعتراف بمساهماتهم هو خطوة أساسية نحو تحقيق الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات المعاصرة.