السمارة حاضرة الشيخ ـ ماء العينين.

tahqiqe24

 

بقلم الدكتور محمد فاضل أحمد الهيبة.

في الثامن والعشرين من مارس سنة 1913، شنّ الجيش الفرنسي بقيادة الكولونيل “موريت” هجومًا مدمرًا على مدينة السمارة، العاصمة الروحية والعلمية للشيخ ماء العينين، أحد أبرز أعلام المغرب والصحراء في القرن التاسع عشر. هذا الهجوم لم يكن مجرد احتلال عسكري، بل شكل عملية تخريب ممنهجة لذاكرة حضارية امتدت لأكثر من عقد من الزمن، كانت فيها السمارة منارةً للعلم والصوفية والمقاومة.

تدمير المدينة ونهب مكتبتها.

بحسب ما ورد في مذكرات الكولونيل موريت، لم تتجاوز مدة إقامة الجيش الفرنسي بالمدينة يومين، لكنها كانت كافية لتدمير معالمها. فقد قُصف المسجد الجامع بالقذائف حتى تهدّم، ودُمّرت مئذنته، فيما نهبت مكتبته التي كانت تزخر بأكثر من 5000 مخطوطة نادرة. جزء من هذه النفائس نقل إلى “المكتبة الوطنية” في باريس، كما يؤكد الباحث الفرنسي “بول مارتي” في مؤلفه Études sur l’Islam Maure، بينما أُحرقت أخرى في ساحة المسجد. كما أُحرقت بناية تُعرف بـ”باب لحجب”، تقع قبالة وادي “وين سلوان”، ولا تزال أطلالها شاهدة إلى اليوم على هذه الجريمة.

قاد موريت هذا الهجوم انطلاقًا من منطقة آدارار بموريتانيا، على رأس وحدة فرنسية مسنودة بجنود سنغاليين و”كوميات” محليين من قبائل “البيظان”. وتشير بعض الشهادات إلى أن الكولونيل كان متخوفًا في ليلته الأولى، ولم يغمض له جفن حتى ساعات الفجر الأولى.

الشيخ ماء العينين: بناء مشروع حضاري.

قبل سنة 1896، لم يكن لموقع السمارة أي طابع عمراني أو حضري. فبحسب الباحث الفرنسي بول مارتي، فإن الشيخ ماء العينين هو من اختار هذا المكان بعناية لتأسيس مركز علمي وروحي يخدم رسالته الدينية والوطنية، ويكون نقطة إشعاع في قلب الصحراء الكبرى.

وقد أرجع بعض الباحثين، مثل الإسباني “خوليو كارو باروخا” في كتابه دراسات صحراوية (1953)، أصل التسمية إلى نبات “السمر” المنتشر بوادي “وين سلوان”، وهو ما ترجمه الاسم المحلي للمدينة: “السمارة”.

 

السمارة: عاصمة علمية ومركز روحي.

تحولت السمارة بسرعة إلى مدينة نابضة بالحياة، تستقطب العلماء والطلبة والمريدين من مختلف أنحاء الصحراء الكبرى. يروي العلامة الشنقيطي أحمد بن محمد الأمين في كتابه الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، زيارته للشيخ ماء العينين قائلاً:
“جئت إلى الشيخ ماء العينين في السمارة، فوجدت عنده عشرة آلاف نسمة، يطعمهم، ويلبسهم، ويعلمهم، ويمنحهم المال، ويزوج من أراد الزواج منهم.”

وفي سنة 1906 أو 1907، نظّم الشيخ مؤتمراً تاريخياً عُرف بـ”غزي لركاب”، حضره شيوخ وأعيان من مختلف القبائل الصحراوية، كما بعث السلطان مولاي عبد العزيز وفداً رسمياً برئاسة ابن عمه مولاي إدريس للمشاركة باسم الدولة المغربية. هذا الحدث مثّل لحظة فارقة في توحيد الجبهة الداخلية ضد الزحف الاستعماري الفرنسي، ووثقه المؤرخ محمد يحظيه ولد بريد الليل وغيرهم.

 

القبائل الصحراوية وعلاقتها بالسمارة.

تؤكد الوثائق الفرنسية والإسبانية أن السمارة لم تكن حكرًا على قبيلة واحدة، بل كانت مركزًا مشتركًا ترعاه قبائل متعددة، أبرزها:

• الرقيبات: أكبر وأقوى القبائل الصحراوية من حيث العدد والنفوذ.

• أولاد دليم: رغم وجودهم الكثيف جنوب غرب الصحراء، إلا أن فروعًا منهم سكنت الساقية الحمراء.

• لعروسيين: قبيلة عريقة، تسكن ضفاف الساقية، ولها ارتباطات تاريخية مع الزوايا الدينية.

• تكنة: اتحاد قبلي واسع يضم قبائل كثيرة من وادي نون إلى تخوم الصحراء.

زيارة الرحالة الفرنسي “ميشيل فيوشانج”.

 

في فاتح نونبر 1930، زار الرحالة الفرنسي “ميشيل فيوشانج” ما تبقى من أطلال السمارة، ومكث بها ثلاث ساعات فقط، دون أن يسمح له بالمبيت. وقد وصف المسجد قائلاً:
“رأيت المسجد ومئذنته، دخلت فرأيت عشرة أعمدة، خمسة منها قائمة، والمحــراب بدأ طلاءه يتساقط. صعدت إلى المئذنة وشاهدت من أعلاها الخيام المنثورة في الصحراء، وكل شيء كان يحمل ذكرى عظيمة.”
ورسم خريطة تقريبية لما تبقى من المدينة، متحسرًا على ضياع هذه المعلمة.

الشيخ ماء العينين: العالم والمجاهد والدبلوماسي.

وُلد الشيخ ماء العينين سنة 1831 (27 شعبان 1246 هـ) في منطقة الحوض الشرقي بموريتانيا، وسط أسرة علمية عريقة. سافر للحج سنة 1274 هـ، ومرّ بعدة مدن مغربية، حيث استُقبل من طرف السلطان مولاي عبد الرحمن. بعد عودته، بدأ في نشر طريقته الصوفية “الفاضلية” في مناطق شنقيط والساقية الحمراء، بدعم من قبائل مؤثرة كالعروسيين وتجكانت وأولاد دليم.

وبعد أن اشتد زحف الفرنسيين من الجنوب، أسّس مدينة السمارة سنة 1898 لتكون قاعدة علمية ومركزًا لمجابهة الاستعمار. وقد لعب دورًا مزدوجًا: عالم دين مؤثر، ومجاهد ميداني، ومفاوض مع المخزن المغربي في قضايا سياسية دقيقة، أبرزها مقاومة المشروع الفرنسي لربط الجزائر بالسنغال عبر الصحراء.

 

السمارة في مرافعة محكمة العدل الدولية

أثناء مرافعة المغرب أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975، قُدمت أكثر من 900 وثيقة تاريخية تثبت العلاقة الوثيقة بين سكان الصحراء والدولة المغربية. وكان الشيخ ماء العينين أحد أعمدة هذه المرافعة، حيث اعتبرته المحكمة “سلطة دينية وزمنية” معترف بها من طرف المخزن.

بل إن الدولة الإسبانية نفسها أقرت في مذكرتها الرسمية (ص 277) بما يلي:

1. أن الشيخ ماء العينين تصدى لمشروع الربط الفرنسي بين السنغال والجزائر.

2. أن سلطته في الصحراء كانت نافذة ومستقلة.

3. أنه عاد من الحجاز محملًا بالدعم العلمي والمعنوي.

4. أنه أسّس مدينة السمارة سنة 1898 لمقاومة التوسع الاستعماري.

5. أن المغرب اعتمد عليه رسميًا كفاعل ديني وزعيم قبلي لمواجهة الاستعمار.

ليست السمارة مجرّد مدينة نائية في عمق الصحراء، بل هي شاهد تاريخي على مقاومة علمية وروحية وطنية قادها الشيخ ماء العينين. ما جرى في مارس 1913 لم يكن فقط تدميرًا لمبنى، بل كان محاولة لاغتيال هوية حضارية وطمس ذاكرة شعب بأكمله. ومع ذلك، ظلت روح المدينة حية، تُلهم أجيالًا من الصحراويين والمغاربة في معركتهم المستمرة من أجل الكرامة والسيادة.

لا يمكن نسخ هذا المحتوى.