في سياق الجهود الوطنية الرامية إلى تعزيز الشفافية وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، أصدرت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها تقريراً تحليلياً تحت عنوان «الصحافة الاستقصائية في المغرب من أجل دور فاعل في مكافحة الفساد»، يُسلّط الضوء على واقع هذا النمط الصحفي ودوره في محاربة الفساد وتقوية المساءلة العمومية.
يؤكد التقرير أن الصحافة الاستقصائية ليست مجرد امتداد للوظيفة الإخبارية التقليدية، بل هي ممارسة مهنية تقوم على البحث المتعمق في القضايا التي تهم الرأي العام، واستجلاء الحقائق التي تُخفى عمداً عن المجتمع، مما يجعلها أداة فعّالة في الدفاع عن المصلحة العامة وترسيخ قيم النزاهة والشفافية.
ويرى معدّو التقرير أن هذا النمط من الصحافة يشكل إحدى الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي، لما له من أثر مباشر في تقوية الوعي الجماعي، ودعم المؤسسات في أداء مهامها الرقابية، وإبراز التجاوزات التي تمس المال العام أو تمثل إساءة لتدبير الشأن العام. كما يشير إلى أن تطورها وازدهارها لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل بيئة ديمقراطية تضمن حرية التعبير، وحماية الصحافيين من التضييق، واستقلالية المقاولات الإعلامية عن التأثيرات السياسية والاقتصادية.
ويُبرز التقرير، من خلال دراسة ميدانية شملت عينة من الصحافيين المغاربة، أن حضور الصحافة الاستقصائية في المشهد الإعلامي الوطني ما يزال باهتاً وضعيفاً، وأن التحقيقات المنجزة غالباً ما تفتقر إلى العمق المطلوب ولا تلامس القضايا الحساسة المرتبطة بالفساد أو تدبير المال العام. وتُعزى هذه الوضعية إلى جملة من العوائق، منها صعوبة الولوج إلى المعلومة، والخوف من المتابعة القضائية، وضعف التكوين الأكاديمي في هذا المجال، فضلاً عن هشاشة النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية.
وفي قراءة تحليلية لواقع الممارسة، يشير التقرير إلى أن التحديات التي تواجه الصحافيين الاستقصائيين تتنوع بين ما هو أخلاقي ومهني وقانوني، من أبرزها الحفاظ على الموضوعية والمصداقية، وتجنب التوظيف السياسي أو الإثارة الإعلامية، والالتزام بأخلاقيات المهنة التي توازن بين الحق في الإخبار واحترام الحياة الخاصة للأفراد.
وفي المحور المتعلق بالشراكة بين الإعلام والهيئة الوطنية للنزاهة، شدّد التقرير على أن الصحافة الاستقصائية تُعد قناة غير رسمية للتبليغ عن حالات الفساد، إذ تمكّن المواطنين والشهود من إيصال معاناتهم إلى السلطات المختصة، كما تساهم في تعزيز الردع المعنوي والمؤسساتي لهذه الظاهرة التي تمثل أحد أبرز معوّقات التنمية.
ولتعزيز هذا الدور، أوصت الهيئة بعدد من التدابير الرامية إلى تطوير الممارسة الاستقصائية، أبرزها:
- تفعيل قانون الحق في الحصول على المعلومات وضمان تطبيقه الفعلي.
- تعزيز الحماية القانونية للصحافيين أثناء أداء مهامهم.
- تشجيع استقلالية المقاولات الإعلامية عن تأثير رأس المال والسلطة.
- تطوير التكوين الأكاديمي والمستمر في مجال التحقيقات الصحافية.
- توطيد التعاون بين وسائل الإعلام والمجتمع المدني في قضايا مكافحة الفساد.
ويخلص التقرير إلى أن النهوض بالصحافة الاستقصائية في المغرب يمثل رهاناً ديمقراطياً بامتياز، إذ يُسهم في بناء مجتمع أكثر وعياً ومؤسسات أكثر شفافية، ويمنح للمواطن موقعاً فاعلاً في مراقبة تدبير الشأن العام. فالصحافة الاستقصائية، كما يصفها التقرير، ليست ترفاً مهنياً، بل هي ضرورة مجتمعية لضمان المساءلة وترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع.