علاقة المواطن بمجاله العام والدعوة إلى تأسيس وعي جماعي حضاري مستدام

تحقيقـ24 تحقيقـ24

د. الحسين بكار السباعي 

محلل سياسي وخبير إستراتيجي

إن علاقة الإنسان بمجاله ليست مجرد ارتباط مادي أو ظرفي، بل هي علاقة انتماء ومسؤولية تتجاوز حدود الإنتفاع إلى عمق قيمي وأخلاقي يجسد مدى نضج المجتمع ورقيه الحضاري.

فالمجال العام ليس مجرد فضاء عمراني، بل هو مرآة للوعي على مدى إحترام الإنسان لما هو مشترك بينه وبين غيره، لأنه يرمز إلى فكرة العيش المشترك والتوازن الإجتماعي الذي لا يقوم إلا على أساس من المسؤولية والتكافل.

فالممتلكات العامة ليست بنيات تحتية فحسب، بل هي تعبير عن العدالة في توزيع الخدمات وتجسيد فعلي لمفهوم المواطنة المسؤولة، إذ يساهم الجميع في إنشائها وصيانتها عبر ما يؤدونه من ضرائب وما يبذلونه من جهود.

ومن ثم فإن المساس بها هو في جوهره إعتداء على الذات الجماعية، لا على الدولة وحدها. فما تزال مظاهر التخريب والتعييب تتكرر في الفضاءات العمومية، في سلوك يعكس أزمة عميقة في الوعي والإنتماء، وعن خلل في منظومة القيم التي ينبغي أن تؤطر علاقة المواطن بمجاله.

إن المقاربة الزجرية وحدها، مهما بلغت من صرامة، لا يمكن أن تبني وعيا حقيقيا بقدر ما تزرع خوفا مؤقتا، فالقانون يحمي الفضاء العام لكنه لا يربي الضمير.

لذلك فإن معالجة الظاهرة تقتضي رؤية شمولية تتجاوز الردع إلى بناء الإنسان عبر التربية والثقافة والقدوة.

فالوعي بالمشترك المادي والمعنوي لا يفرض بالقوانين الزجرية، بل يغرس في النفوس بالتنشئة الأسرية والمدرسية، وبخطاب إعلامي وتربوي يرسخ فكرة أن الفضاء العام هو بيت الجميع، وأن صيانته واجب أخلاقي قبل أن تكون مجرد إلتزام قانوني.

علينا أن نعلم أن المجتمعات المتقدمة لم تبلغ احترامها للمجال العام بالصدفة أو بالخوف من القانون والعقاب ، بل نتيجة مسار طويل من التربية على المواطنة وغرس قيم الإنتماء إلى كل ماهو مشترك.

إن إحترام الفضاء العام في تلك المجتمعات ليس سلوك مفروض، بل تعبير عن قناعة داخلية بأن الحفاظ على الممتلكات الجماعية هو حفاظ على الذات الجماعية، وأن العبث بها وتخريبها هو إخلال بالكرامة الإنسانية ذاتها.

ولعل أخطر ما في السلوك التخريبي أنه لا ينشأ من فراغ، بل يتغذى من تراكمات نفسية وإجتماعية وتربوية، تنبع من شعور بالاغتراب أو فقدان العدالة الإجتماعية أو ضعف الإحساس بالانتماء.

فحين يفقد الإنسان ثقته في محيطه، يتحول الإحباط إلى رفض أعمى لكل ما يرمز إلى الجماعة أو الدولة، ويتجلى ذلك في صورة عدوانية تجاه الفضاء العام والمرافق المشتركة.

فتجاوز هذه الظاهرة لا يتحقق إلا بمشروع مجتمعي متكامل تتضافر فيه جهود المنتخبين والسلطات المحلية والمجتمع المدني والمثقفين والإعلاميين، لتكوين مواطن يؤمن بأن المجال العام جزء من ذاته وهويته.

فبناء الإنسان هو المدخل الحقيقي لبناء المجال، وصيانة الممتلكات العامة هي ثمرة الوعي الجماعي الذي يقاس به نضج الأمم وتحضرها.

ختاما نحن اليوم أمام رهان واحد ،وهو ضرورة العمل علة تأسيس لثقافة جديدة تعيد الإعتبار للمشترك العام بإعتباره أساس العيش المشترك وعماد الإستقرار والتنمية، لأن الأمم لا تقاس بما تملك من عمران ومرافق وبنيان، بل بمدى إحترامها لما يجمعها من قيم ومصالح ومصير واحد.

وأن الحفاظ على المجال العام يجسد الوعي الحضاري الأسمى، ويؤسس لمغرب يوازن بين التنمية المادية والرقي الإنساني، في انسجام متكامل بين الإنسان ومجاله المشترك.

اترك تعليقا *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ركن الإعلانات والإشهارات

أبرز المقالات

برامجنا

لا يمكن نسخ هذا المحتوى.